فصل: قال ابن العربي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وخامسها: أنه يجوز أن يكون فيه وقف عند قوله كبيرهم ثم يبتدىء فيقول هذا فاسألوهم، والمعنى بل فعله كبيرهم وعنى نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم.
وسادسها: أن يكون في الكلام تقديم وتأخير كأنه قال: بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم فتكون إضافة الفعل إلى كبيرهم مشروطًا بكونهم ناطقين فلما لم يكونوا ناطقين امتنع أن يكونوا فاعلين.
وسابعها: قرأ محمد بن السميفع فعله كبيرهم أي فلعل الفاعل كبيرهم.
القول الثاني: وهو قول طائفة من أهل الحكايات، أن ذلك كذب واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلها في ذات الله تعالى، قوله: {إِنّى سَقِيمٌ} وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} وقوله لسارة هي أختي» وفي خبر آخر: «أن أهل الموقف إذا سألوا إبراهيم الشفاعة قال: إني كذبت ثلاث كذبات» ثم قرروا قولهم من جهة العقل وقالوا: الكذب ليس قبيحًا لذاته، فإن النبي عليه السلام إذا هرب من ظالم واختفى في دار إنسان، وجاء الظالم وسأل عن حاله فإنه يجب الكذب فيه، وإذا كان كذلك فأي بعد في أن يأذن الله تعالى في ذلك لمصلحة لا يعرفها إلا هو، واعلم أن هذا القول مرغوب عنه.
أما الخبر الأول وهو الذي رووه فلأن يضاف الكذب إلى رواته أولى من أن يضاف إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والدليل القاطع عليه أنه لو جاز أن يكذبوا لمصلحة ويأذن الله تعالى فيه، فلنجوز هذا الاحتمال في كل ما أخبروا عنه، وفي كل ما أخبر الله تعالى عنه وذلك يبطل الوثوق بالشرائع وتطرق التهمة إلى كلها، ثم إن ذلك الخبر لو صح فهو محمول على المعاريض على ما قال عليه السلام: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب».
فأما قوله تعالى: {إِنّى سَقِيمٌ} فلعله كان به سقم قليل واستقصاء الكلام فيه يجيء في موضعه.
وأما قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} فقد ظهر الجواب عنه.
أما قوله لسارة: إنها أختي، فالمراد أنها أخته في الدين، وإذا أمكن حمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكذب إلى الأنبياء عليهم السلام فحينئذ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلا زنديق.
أما قوله تعالى: {فَرَجَعُواْ إلى أَنفُسِهِمْ فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون} ففيه وجوه: الأول: أن إبراهيم عليه السلام لما نبههم بما أورده عليهم على قبح طريقهم تنبهوا فعلموا أن عبادة الأصنام باطلة، وأنهم على غرور وجهل في ذلك.
والثاني: قال مقاتل: فرجعوا إلى أنفسهم فلاموها وقالوا إنكم أنتم الظالمون لإبراهيم حيث تزعمون أنه كسرها مع أن الفأس بين يدي الصنم الكبير.
وثالثها: المعنى أنكم أنتم الظالمون لأنفسكم حيث سألتم منه عن ذلك حتى أخذ يستهزىء بكم في الجواب، والأقرب هو الأول.
أما قوله تعالى: {ثُمَّ نُكِسُواْ على رُؤُوسَهُمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ} فقال صاحب الكشاف: نكسه قلبه فجعل أسفله أعلاه.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
في المعنى وجوه: أحدها: أن المراد استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وأتوا بالفكرة الصالحة، ثم انتكسوا فقلبوا عن تلك الحالة، فأخذوا في المجادلة بالباطل وأن هؤلاء مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق آلهة معبودة.
وثانيها: قلبوا على رؤوسهم حقيقة لفرط إطراقهم خجلًا وانكسارًا وانخذالًا مما بهتهم به إبراهيم فما أحاروا جوابًا إلا ما هو حجة عليهم.
وثالثها: قال ابن جرير ثم نكسوا على رؤوسهم في الحجة عليهم لإبراهيم حين جادلهم.
أي قلبوا في الحجة واحتجوا على إبراهيم بما هو الحجة لإبراهيم عليهم، فقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ} فأقروا بهذه للحيرة التي لحقتهم، قال والمعنى نكست حجتهم فأقيم الخبر عنهم مقام الخبر عن حجتهم.
المسألة الثانية:
قرئ {نكسوا} بالتشديد و{نكسوا} على لفظ ما لم يسم فاعله، أي نكسوا أنفسهم على رؤوسهم وهي قراءة رضوان بن عبد المعبود.
أما قوله تعالى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} فالمعنى ظاهر.
قال صاحب الكشاف: أف صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر، وإن إبراهيم عليه السلام أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم، وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل، فتأفف بهم.
ثم يحتمل أنه قال لهم ذلك وقد عرفوا صحة قوله.
ويحتمل أنه قال لهم ذلك وقد ظهرت الحجة وإن لم يعقلوا.
وهذا هو الأقرب لقوله: {أَفَتَعْبُدُونَ} ولقوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}. اهـ.

.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْأَلُوهُمْ إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الأولى:
رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ، وَاللَّفْظُ لَهُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَمْ يَكْذِبْ إبراهيم فِي شَيْءٍ قَطُّ إلَّا فِي ثَلَاثٍ: قوله: إنِّي سَقِيمٌ، وَلَمْ يَكُنْ سَقِيمًا، وَقوله لِسَارَةَ: أُخْتِي؛ وقوله تعالى: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا}».
وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «لَمْ يَكْذِبْ إبراهيم إلَّا ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ: ثِنْتَيْنِ مِنْهَا فِي ذَاتِ اللَّهِ، قوله: {إنِّي سَقِيمٌ} وَقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} وَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ إذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنْ الْجَبَابِرَةِ فَقِيلَ: إنَّ هَاهُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أُخْتِي فَأَتَى سَارَةَ فَقَالَ: يَا سَارَةُ، لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الأرض مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَك، وَإِنَّ هذا سَأَلَنِي فَأَخْبَرْته أَنَّك أُخْتِي، فَلَا تَكْذِبِينَنِي فَأَرْسَلَ إلَيْهَا فَلَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ، فَأُخِذَ، فَقَالَ: اُدْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّك، فَدَعَتْ اللَّهَ، فَأُطْلِقَ ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ فَقَالَ: اُدْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّك، فَأُطْلِقَ، فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ فَقَالَ: لَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ، إنَّمَا أَتَيْتنِي بِشَيْطَانٍ، فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
قوله تعالى: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ظَاهِرِ الْمَقْصُودِ بِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هذا تَعْرِيضٌ، وَفِي التَّعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ؛ فَشَرَطَ النُّطْقَ فِي الْفِعْلِ.
وَالأول أَصَحُّ: لِأَنَّهُ عَدَّدَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّعْرِيضِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَيَتَّخِذُونَهُمْ آلِهَةً دُونَ اللَّهِ، وَهُمْ كَمَا قَالَ إبراهيم لِأَبِيهِ {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْك شَيْئًا}؟ فَقَالَ إبراهيم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} لِيَقُولُوا إنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يَفْعَلُونَ وَلَا يَنْفَعُونَ وَلَا يَضُرُّونَ، فَيَقُولُ لَهُمْ: فَلِمَ تَعْبُدُونَ؟ فَتَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ.
وَلِهذا يَجُوزُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ فَرْضُ الْبَاطِلِ مَعَ الْخَصْمِ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْحَقِّ مِنْ ذَاتِ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ أَقْرَبُ فِي الْحُجَّةِ وَأَقْطَعُ لِلشُّبْهَةِ، كَمَا قَالَ لِقَوْمِهِ: هذا رَبِّي، عَلَى مَعْنَى الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، حَتَّى إذَا أَفَلَ مِنْهُمْ تَبَيَّنَ حُدُوثُهُ، وَاسْتِحَالَةُ كَوْنِهِ إلَهًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
قوله: {هذا رَبِّي} {هَذِهِ أُخْتِي} {وَإِنِّي سَقِيمٌ} {وَبَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} هَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ مَعَارِيضَ وَحَسَنَاتٍ، وَحُجَجًا فِي الْحَقِّ، وَدَلَالَاتٍ، لَكِنهَا أَثَّرَتْ فِي الرُّتْبَةِ، وَخَفَّضَتْ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ الْمَنْزِلَةِ، وَاسْتَحْيَا مِنْهَا قَائِلُهَا عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ؛ لِأَنَّ الَّذِي كَانَ يَلِيقُ بِمَرْتَبَتِهِ فِي النُّبُوَّةِ وَالْخِلَّةِ أَنْ يَصْدَعَ بِالْحَقِّ، وَيُصَرِّحَ بِالْأَمْرِ فَيَكُونُ مَا كَانَ، وَلَكِنهُ رُخِّصَ لَهُ فَقَبِلَ الرُّخْصَةَ، فَكَانَ مَا كَانَ مِنْ الْقِصَّةِ، وَلِهذا جَاءَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: «إنَّمَا اُتُّخِذْت خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ» يَعْنِي بِشَرْطِ أَنْ تُتَّبَعَ عَثَرَاتِي، وَتُخْتَبَرَ أَحْوَالِي، وَالْخِلَّةُ الْمُطْلَقَةُ لِمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ: {لِيَغْفِرَ لَك اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وما تَأَخَّرَ}، وَلِذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ فِي أَمْثَالِهَا: ابْغِنِي مِنْ وَرَائِي، أَيْ اخْتَبِرْ حَالِي.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
فِي هذا الْحَدِيثِ نُكْتَةٌ عُظْمَى تَقْصِمُ الظَّهْرَ، وَهِيَ أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَمْ يَكْذِبْ إبراهيم إلَّا ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ: ثِنْتَيْنِ مِنْهَا مَاحَلَ بِهِمَا عَنْ دِينِ اللَّهِ وَهِيَ قوله: إنِّي سَقِيمٌ، وَبَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا»، وَلَمْ يَعُدَّ قوله: هَذِهِ أُخْتِي فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَ بِهَا مَكْرُوهًا، وَلَكِنهُ لَمَا كَانَ لِإبراهيم فِيهَا حَظٌّ مِنْ صِيَانَةِ فِرَاشِهِ، وَحِمَايَةِ أَهْلِهِ، لَمْ يَجْعَلْ فِي جَنْبِ اللَّهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْعَلُ فِي ذَاتِ اللَّهِ إلَّا الْعَمَلَ الْخَالِصَ مِنْ شَوَائِبِ الْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَوْ الْمَعَانِي الَّتِي تَرْجِعُ إلَى النَّفْسِ، حَتَّى إذَا خَلَصَتْ لِلدِّينِ كَانَتْ لِلَّهِ، كَمَا قَالَ: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} وَهذا لَوْ صَدَرَ مِنَّا لَكَانَ لِلَّهِ، وَلَكِن مَنْزِلَةَ إبراهيم اقْتَضَتْ هذا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} الآية فيه وجهان:
أحدهما: بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون فاسألوهم، فجعل إضافة الفعل إليهم مشروطًا بنطقهم تنبيهًا لهم على فساد اعتقادهم.
الثاني: أن هذا القول من إبراهيم سؤال إلزام خرج مخرج الخبر وليس بخبر، ومعناه: أن من اعتقد أن هذه آلهة لزمه سؤالها، فلعله فعله كبيرهم فيجيبه إن كان إلهًا ناطقًا.
{إِن كَانُواْ يَنطِقُونَ} أي يخبرون، كما قال الأحوص:
ما الشعر إلا خطبةٌ من مؤلفٍ ** لمنطق حق أو لمنطق باطل

قوله تعالى: {فَرَجَعُواْ إِلَى أَنفُسِهِمْ} فيه وجهان:
أحدهما: أن رجع بعضهم إلى بعض.
الثاني: أن رجع كل واحد منهم إلى نفسه متفكرًا فيما قاله إبراهيم، فحاروا عما أراده من الجواب فأنطقهم الله تعالى الحق {فَقَالُواْ إِنَّكم أَنتُمُ الظَّالِمُونَ} يعني في سؤاله، لأنها لو كانت آلهة لم يصل إبراهيم إلى كسرها، ولو صحبهم التوفيق لآمنوا هذا الجواب لظهور الحق فيه على ألسنتهم.
{ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُءوسِهِمْ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: معناه أنها رجعوا إلى شِركهم بعد اعترافهم بالحق.
الثاني: يعني أنهم رجعواْ إلى احتجاجهم على إبراهيم بقولهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاءِ يَنطِقُونَ}.
الثالث: أنهم نكسواْ على رؤوسهم واحتمل ذلك منهم واحدًا من أمرين: إما انكسارًا بانقطاع حجتهم، وإما فكرًا في جوابهم فأنطقهم الله بعد ذلك بالحجة إذعانًا لها وإقرارًا بها، بقولهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنطِقُونَ} فأجابهم إبراهيم بعد اعترافهم بالحجة. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قال المفسرون: فانطلَقوا به إِلى نمرود، فقال له: {أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا} غضب أن تُعبَد معه الصغار، فكسرها، {فاسألوهم إِن كانوا يَنْطِقون} من فَعَلَه بهم؟! وهذا إِلزام للحُجَّة عليهم بأنهم جماد لا يقدرون على النُّطق.
واختلف العلماء في وجه هذا القول من إبراهيم عليه السلام على قولين:
أحدهما: أنه وإِن كان في صورة الكذب، إِلا أن المراد به التنبيه على أن من لا قدرة له، لا يصلح أن يكون إِلهًا، ومثله قول الملَكين لداود: {إِنَّ هذا أخي} [ص: 23] ولم يكن أخاه {له تسع وتسعون نعجة} [ص: 23]، ولم يكن له شيء، فجرى هذا مجرى التنبيه لداود على ما فعل، وأنه هو المراد بالفعل والمَثَل المضروب؛ ومِثْل هذا لا تسمِّيه العرب كذبًا.
والثاني: أنه من معاريض الكلام؛ فروي عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله تعالى: {بل فعله} ويقول معناه: فعله مَنْ فعله، ثم يبتدىء {كبيرهم هذا}.
قال الفراء: وقرأ بعضهم: {بل فعلّه} بتشديد اللام، يريد: فلعلَّه كبيرهم هذا.
وقال ابن قتيبة: هذا من المعاريض، ومعناه: إِن كانوا ينطقون، فقد فعله كبيرهم، وكذلك قوله: {إِني سقيم} [الصافات: 89] أي: سأسقم، ومثله {إِنكَ ميِّت} [الزمر: 30] أي: ستموت، وقوله: {لا تؤاخذني بما نسيتُ} [الكهف: 74] قال ابن عباس: لم ينس، ولَكِنه من معاريض الكلام، والمعنى: لا تؤاخذني بنسياني، ومن هذا قصة الخصمين {إِذ تسوروا المحراب} [ص: 21]، ومثله {وإِنّا أو إِيّاكم لعلى هُدىً} [سبأ: 24]، والعرب تستعمل التعريض في كلامها كثيرًا، فتبلغ إِرادتها بوجهٍ هو ألطف من الكشف وأحسن من التصريح.
وروي أن قوما من الإعراب خرجوا يمتارون، فلما صدروا، خالف رجل في بعض الليل إِلى عكْم صاحبه، فأخذ منه بُرًّا وجعله في عِكْمه، فلما أراد الرحلة وقاما يتعاكمان، رأى عِكْمه يشول، وعِكْم صاحبه يثقل، فأنشأ يقول:
عِكْم تغشَّى بعضَ أعكام القوم ** لَمْ أَرَ عِكْمًا سَارقًا قبل اليوم

فخوَّن صاحبه بوجهٍ هو ألطف من التصريح.
قال ابن الأنباري: كلام إبراهيم كان صدقًا عند البحث، ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كذب إبراهيم ثلاث كذبات» قال قولًا يشبه الكذب في الظاهر، وليس بكذب.
قال المصنف: وقد ذهب جماعة من العلماء إِلى هذا الوجه، وأنه من المعاريض، والمعاريض لا تُذم، خصوصًا إِذا احتيج إِليها، روى عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِن في المعاريض لمندوحة عن الكذب»، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما يسرُّني أنّ لي بما أعلم من معاريض القول مِثْل أهلي ومالي، وقال النخعي: لهم كلام يتكلَّمون به إِذا خشوا من شيء يدرؤون به عن أنفسهم.
وقال ابن سيرين: الكلام أوسع من أن يكذب ظريف، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعجوز: «إِن الجنَّة لا تدخلها العجائز»، أراد قوله تعالى: {إِنّا أنشأناهُنَّ إِنشاء} [الواقعة: 35]، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يمازح بلالًا، فيقول: «ما أُخت خالك منك»؟، وقال لامرأة: «مَنْ زوجُك»؟ فسمَّته له، فقال: «الذي في عينيه بياض»؟، وقال لرجل: «إِنا حاملوك على ولد ناقة»، وقال له العباس: ما ترجو لأبي طالب؟ فقال: «كل خير أرجوه من ربِّي»، وكان أبو بكر حين خرج من الغار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا سأله أحد: مَنْ هذا بين يديك؟ يقول: هادٍ يهديني.